التأويل بشكل غير منضبط يقود للسخف وهذا شيء يفهمه كل عاقل إذ أنه يقود لمرحلة لا يعني أي كلام ما يبدو من ظاهره مهما كان واضحا.
الكلمة مطلقة فإذا قيدها السياق ظهر معناها كأن تقول “أسد” مجردًا فإذا كان السياق يشير لحيوان فُهم المعتاد وإذا قيل أسامة أسد فهم أنه شجاع وإذا لم يكن هناك قيد يحمل الكلام على غير ظاهره لفظيا أو بقرينة ما، لم يجز أخذه على غير ظاهره.
وكلام البشر كله كذلك لا يكون مجردا مجزءا إنما في سياق يدل على المعنى، ذكر ابن تيمية شيئا من هذا في ما يخص الالفاظ المجردة :
“وإنما المقصود هنا الاطلاق اللفظى وهو أن يتكلم باللفظ مطلقا عن كل قيد وهذا لا وجود له وحينئذ فلا يتكلم أحد الا بكلام مؤلف مقيد مرتبط بعضه ببعض فتكون تلك قيود ممتنعة الاطلاق فتبين أنه ليس لمن فرق بين الحقيقة والمجاز فرق معقول يمكن به التمييز بين نوعين فعلم أن هذا التقسيم باطل وحينئذ فكل لفظ موجود في كتاب الله ورسوله فانه مقيد بما يبين معناه فليس في شىء من ذلك مجاز بل كله حقيقة”.
من مدة حصل نقاش بين مذيع أمريكي وفتاة وجرى النقاش على هذا النحو:
- “الجندرية سيالة، يستطيع الإنسان ادعاء ما يحلو له عن هويته”.
- فسألها: إذن أستطيع أن أعرف نفسي على أنني سحاقية سوداء؟
- دهشت لوهلة ثم ردت: لا لأنك تجعلها سخيفة هكذا.
- فقال: أنت جعلتها سخيفة لما قلت أن الواحد يدعي ما يحلو له.
لما دخل النظم الكلامي الأرسطي بأصوله وغلب عقول من طالعه كان لا بد من تأويل ظواهر النصوص المخالفة لهذا “الحق” المكتشف لما يناسبه ولأن النظم الفلسفي متضمن لاعتقاد باطني مفاده أن الناموس يجب أن يحقق الخير الدنيوي بغض النظر عن حقيقة أخباره وأنها على كل حال كنايات للعبرة لم يكن هناك من داع للخروج من مسمى الإسلام أصلا مهما أتسق المتفلسف المثالي مع أصوله ولم يكن هناك مصادمة للجانب التشريعي، فحدث المعروف من تبني الأصل وتأويل الصفات مع كون الفرق المتأثرة محافظة على جانب الشريعة.
أما في جانب الأصول صار الأمر متفاوتا بين من يتسق حتى يستسيغ رد كل أصل وبين من يقف عند حد معين ولم تعني الحالة الأولى كذلك إعلان الردة فقد كان الفصل بين حقائق الخواص وعقائد العوام هو الحل.
نعم إن الدين لم يأت مخالفا للحق هذا وإنما خاطب كل عقل بما يتحمل من الحقائق فأوهم العوام توحيدا باطلا وألبس الخواص آخر وعم الأثنين بالناموس، تطبيقه عند الخواص وظاهر قصصه ووعيده للعوام وهذا أصلح فكل مكلف بما يطيق.
ولكن من لم يتسق إلى هذا الحد من أهل الكلام الأخرين قال ممتعضا: “ولكنكم هكذا تجعلون الأمر سخيفا!” أو هكذا أراد الغزالي لما أخذ بمقتضى دليل التسلسل ونفى الحركة ثم قال باللاهوت السلبي ونفى الصفات ثم أعترض على من أتسق أكثر منه بالتكفير إذ لا يعقل عنده أن نصل لمرحلة ننكر فيها أن الله يبعث الأجساد بعد الموت أو أنه خلق العالم أو أن جميع ما أراد من قصص كنايات يراد منها منفعة دنيوية (رغم أنه أعتقد هذا في فترة). كان رد ابن رشد عليه أنكم أولتم آيات الصفات والعلو وهي أظهر في الشريعة من المعاد الجسماني فلماذا تكفروننا على تأويل لا يزيد أن يكون اتساقا وفي أمر أقل ظهور من ذاك؟. وفعلا فقد قال الغزالي بنفسه: يريدون نفي الحركة، وهذا أصل مشترك.
هؤلاء كلهم يتفاوتون في الاتساق ويشتركون في الأصل ويعيب بعضهم تناقض غيره أو إتساقه بحسب بقايا آثار الرسالة النبوية فيهم.
لتكون المعادلة في ما يجب: أصول الشرع ظاهرها للعوام، باطنها المنافي للظاهر للخواص والتشريع غرضه دنيوي وبما أنه كامل لأنه إلهي لم تدعوا الحاجة لتشغيل آلة التأويل تجاهه وشغلت تجاه الأصل وأبطل الظاهر.
ثم ظهرت القوانين الإنسانوية لتغلب هذه الفئات من جديد، فظهر من استسلم لأفكار العصر وأول الشريعة لتوافق التشريع الغالب على الجنس البشري اليوم وبعد أن استحسن ما استحسنوا واستقبح ما استقبحوا ألا يمكن أن يقال أنه يتسق مع أسبقيته المبدئية في أن الأصول احتاجت تأويلا لتوافق المعقول والفروع قد تحتاج تأويلا لتوافق العرف البشري السائد؟ وعلى ماذا يكفر؟ الا يكون الخلاف معه وقتها خلاف اتساق وتناقض يكون هو المتسق فيه وفي الفرعيات لا الأصول حتى؟
هنا سيلحظ إنقسام آخر وخصوصا في الأشعرية والمؤسسات الأشعرية مثلا في تبني الحداثة وكيف أنهم بعد الرضوخ مارسوا آلية تأويل الأصول نفسها وأسقطوها على الفروع فالأفكار تحب الاتساق وقياسا فتأويل المتواتر الفطري كالعلو والمتواتر من الصفات لا ينبغي أن يكون أسهل من تأويل حد الرجم أو أحوال النساء الشرعية فمن هذا الباب اللغة تتحمل وهذا دأب قديم وسنة ماضية.
فتجد ما حصل تكرر بين أصل اقتضى تبديل أصل وفرع اقتضى تبديل فرع ومن استساغ تبديل الأصل أولى أن لا ينكر على مبدل الفرع.
إعتراض
وقد يقال اعتراضا على هذا الاستقراء: “من أول الأصول ربما عرضت له شبهة تفيد مراده أما تأويل هؤلاء على مراد روح العصر الليبرالية سخيف”. ويجاب (بعيدا عن كون هذا الاعتراض يبطن اعتقاد عدم وضوح الوحي) نعم ولكن ألم يصبح الأمر سخيفا حال تأويلهم الأصول لأجل روح العصر الأرسطية حين ظنوا أنه الحق وإجماع عقلاء البشرية؟
إذن ستصبح المعركة من جديد صراع بين متسق مع أصله تبنى منظومة أخرى ومتناقض فيه أثار الرسالة النبوية وإن كانت الأصول عنده مفقودة من الأساس.
ثم على النسق نفسه من يرفض تطرف شحرور ومن سيتبعه من الفئتين في تأويل النصوص لتوافق الداروينية والليبرالية لأن الأمر سيصبح سخيفا هكذا، أن يتأول دون أي قرينة تفيد كلامه ليوافق أصل تشريعي مناقض، يقال له بالمثل:
ألم يحدث هذا في الأصول والفروع؟ ماذا بقي؟ خلاف تأويلي لا أكثر.
يراجع:
- الإيمان لابن تيمية،
- النبوات لابن تيمية،
- تهافت الفلاسفة للغزالي،
- تهافت التهافت لابن رشد.
اترك تعليقاً