نظرية نهاية التاريخ والحرب الروسية على النظام الليبرالي

د

Knight chess attack to win the race.

هذا المقال ترجمة لمقال: END OF HISTORY THAT HAS NEVER HAPPENED AND RUSSIAN WAR ON THE LIBERAL ORDER لكاتبه: Alexander Dugin في موقع: katehon.com.

من وجهة نظر أيديولوجية؛ فإن العالم ما زال يعيش في ظل الجدليات التي حدثت بين صمويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما خلال تسعينات القرن الماضي. ومهما كانت النقود التي طرحت كمعارضة لطروح هذين المفكرين؛ فإن مكانة طرحهما ذاته لم تتزحزح بأي شكل من الأشكال. إن المعضلات الفكرية التي طرحاها ما زالت قائمة، وما زالت المدار الرئيسي لعالم الأفكار والسياسة.

دعوني أذكركم بالموضوع؛ بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانفساخ معاهدة وارسو؛ فإن الفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما ألف أطروحة عن “نهاية التاريخ”.1 كانت مبنية على أساس أنه في القرن العشرين -وخصوصًا بعد هزيمة الفاشية- فإن التاريخ تم حصره في مواجهة بين أيديولوجيتين: الليبرالية الغربية ضد الشيوعية السوفيتية. المستقبل -وبالمُحصِّلة معنى التاريخ- سيتحدد بنتاج هذه المواجهة.

والآن بزعم فوكوياما؛ فإن المستقبل قد وصل. وهذا الوصول الذي يقصده كان انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991، وتمكن الليبراليين الذين يعتقدون بفوقية الفكر الغربي من زمام السلطة في موسكو. وهذه خلاصة أطروحة نهاية التاريخ. كما يزعم فوكوياما؛ فإن التاريخ هو تاريخ الحروب (الباردة والحارة منها)، الصراع والمواجهة. في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فإن كل الصراعات حصرت في مجابهة الرأسمالية الليبرالية الغربية ضد الشرق الاشتراكي. عندما انهار الشرق فإن التعارض انتهى. الحروب انتهت (كما ظن فوكوياما). وبحسب زعمه فإن التاريخ انتهى.

تأجيل نظرية نهاية التاريخ، لا نكرانها

في الواقع هذه النظرية هي التي تختزل كل أيديولوجية وتطبيق العولمة وعملية نشر العولمة. الغربيون الليبراليون ما زالوا موجهين من خلالها حتى يومنا هذا. هي الفكرة المروج لها من أمثال جورج سوروس، كلاوس شواب، بيل غايتس، جيف بيزوس، مارك زوكربيرج، باراك أوباما، برنارد ليفي، هيلاري كلينتون وجو بايدن.

الليبراليون يعترفون أن الأمور لم تسر بسلاسة خلال التسعينات. الليبرالية والغرب واجها مشاكل وتحديات جديدة (كالإسلام السياسي، صعود روسيا والصين، الشعبوية -مما يشمل أمريكا بنفسها بشكل ترامب والترامبوية- إلخ). العولميُّون مقتنعون بشكل ما أن نهاية التاريخ قد أجلت، لكنها حتمية وستأتي عما قريب. العولمي جو بايدن فاز الانتخابات (غالبًا بالتزوير) تحت حملة محاولة جديدة أخيرة لجعل نهاية التاريخ واقعًا. كان الهدف إثبات هيمنة الليبراليين النهائية على العالم. (“لنبنيها من جديد” حملة البيت الأبيض هي مجرد إعادة صياغة لـ”العودة للعولمة من جديد لكن هذه المرة بشكل أفضل”). العبارة نفسها وظفها مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب: “الاستعادة الكبرى” لبرنامج الكوكب.

فوكوياما وأطروحاته لم يتم تهميشها، إنما تطبيق خطته من وجهة نظر ليبرالية عولمية بلا مشاكل تم تأجيله. لمدة 30 سنة استمرت الليبرالية بالتخلل في المجتمع -في العلم والتكنولوجيا والمعاملات الثقافية، وعن طريق انتشار سياسات الجندر (LGBTQ+ أو مجتمع الميم) في التعليم والعلم والفن والتواصل الاجتماعي وثقافة الإقصاء الخ. هذا لم يحصل فقط في المجتمعات الغربية بل حتى في المجتمعات شبه المنغلقة مثل البلدان الإسلامية والصين وروسيا. 

ظهور الحضارات من جديد

فرانسيس فوكوياما وصاموئيل هينتغتون

يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما هو عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي، مؤلف، وأستاذ جامعي أميركي. اشتهر بكتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير الصادر عام 1992.

في التسعينات مؤلف أمريكي آخر “صمويل هنتغتون” عارَضَ فوكوياما بتأويل آخر للتاريخ المعاصر. فوكوياما كان ليبراليًا مخلصًا، داعيًا للحكومات العالمية ونبذ الوطنية وانتزاع السلطوية من الدول القومية. هنتغتون بالطرف الآخر كان أشد تمسكًا بالتقليدية الواقعية في العلاقات الدولية كان يعتقد بالسيادة على أنها المثال الأعلى.

لكن على غرار الواقعيين الآخرين الذين تأولوا السياسات العالمية من خلال اصطلاح الدول القومية، هنتغتون اعتقد أنه بعد نهاية الحرب الباردة واختفاء المعسكر الشرقي الاتحاد السوفيتي فيه، لن يكون هناك نهاية للتاريخ لكن أطراف أخرى ستلعب وتنافس إحداها الأخرى على وسع الكوكب. سماها “الحضارات” وفي مقال مشهور له توقع صراعها.

هنتغتون بنى من خلال الآتي: الرأسمالية والشيوعية لم تتأسَّسا في فراغ أيديولوجي مجرد؛ إنما على أرضيات ثقافية وفكرية محددة ممتدة على ناس وأراضٍ متعددة. هذه الأرضيات أسست بزمن طويل سابق لبدايات الحداثة الغربية وأيديولوجياتها المختزلة والمبسطة للأفكار (الليبرالية والشيوعية والقومية). وعندما يأتي الصراع الغربي لنهايته (كما حدث بانهيار وخفوت أحد آخر هذين الاثنين منها: الشيوعية) فإن الملامح العميقة للثقافات القديمة، الديانات والحضارات ستظهر من تحت السطح. 

الأعداء الحقيقيون والوهميون للعولمة الليبرالية

صواب توقعات هنتغتون بدأ يظهر خصوصًا في بداية القرن الواحد والعشرين؛ عندما ظهر الإسلام الأصولي كمعارض للغرب. لكن هنتغتون مات قبل أن يشهد نصره الافتراضي، بينما اعترف فوكوياما أنه استعجل في صياغة أطروحته بشكل نهائي، وأصدر أطروحة “الفاشية الإسلامية” التي سيشكل هزيمتها النهاية الحقيقية للتاريخ لا ما سبقها. لكنه كان مخطئًا من جديد. 

وليس فيما يخص الإسلام السياسي فقط. فقد تبين أن الإسلام متنوع جدًا في طريقة تطبيقه لدرجة أنه لم يتمكن من الظهور كقوة أيديولوجية موحدة لمواجهة الغرب. كان من المفيد للغرب أن يتلاعبوا بالتهديد الإسلامي والأصولي لدرجة معينة؛ ليبرروا تدخلهم في الحياة السياسية للمجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط وأواسط آسيا. لكنه لم يكن تحديًا أيديولوجيًا جادًا.
من طرف آخر وكتهديد أكثر جدية كان هناك السعي الروسي والصيني للسيادة.

لكن من جديد لا موسكو ولا بكين عارضتا العولمة الليبرالية بأي أيديولوجيا معينة (خصوصًا أن الشيوعية الصينية اعترفت باللبرَلَة الاقتصادية بعد إعادة التشكيل الذي قام به دينغ شياو بينغ). هاتان حضارتان تشكلتا قبل الحداثة المعاصرة بمدة طويلة. هنتغتون بنفسه سماهما حضارة أرثوذوكسية (3) (مسيحيي الشرق) بالنسبة فيما يخص روسيا وكونفوشيَّة فيما يخص الصين. وبشكل صحيح لاحظ أن هناك رابطً رُوحانيًا عميقًا في الثقافتين. هاتان الحضارتان بدأتا الظهور على الساحة حالة نهاية الصراع بين الليبرالية والشيوعية على شكل انتصار سطحي للعولميين. الشيوعية اختفت، لكن الشرق وأوراسيا لم يختفيا.  

النصر في العالم الافتراضي

أنصار نهاية التاريخ لم يتقبلوا فشلهم بسهولة. كانوا غارقين في سياق صرحهم الليبرالي العولمي المتطرف لدرجة أنهم لم يستطيعوا تخيل أي مستقبل سوى نهاية التاريخ. لذا بدأوا يصرون أكثر فأكثر على نسخة افتراضية منه. إن لم يكن واقعًا لنجعله واقعًا وسيُصدقه الجميع. بالخلاصة: يتم المراهنة على سياسات السيطرة على العقول، من خلال: تكنولوجيا المعلومات العالمية، تكنولوجيا الشبكات، ترويج الأدوات الرقمية الحديثة، وتطوير الذكاء الصناعي.

هذه هي الاستعادة الكبرى كما أعلن عنها مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب، متبنى من الحزب الديموقراطي الأمريكي وجو بايدن. خلاصة هذه السياسة ما يلي: إن لم يتحكم العولميون في الواقع فإنهم يحكمون العالم الافتراضي تمامًا.

يمتلكون كل التكنولوجيات الشبكية، البروتوكولات، الخوادم الشبكية، إلخ. وبناءً على ذلك معتمدين على الوهم العالمي التقني والسلطة المطلقة على الأذهان، بدأوا برسم صورة للعالم حيث انتهى التاريخ فيه فعلًا. لم تكن سوى صورة لا أكثر. لقد قرر الذيل أن يهز الكلب!

وهكذا فوكوياما حافظ على مكانته، ولكنه لم يعد محللًا لكن أشبه بمدير علاقات عامة يحاول غصب مفاهيم ترفضها غالب البشرية. لقد تحولت الليبرالية لشيء عدائي وشمولي هذه المرة. 

“حرب بوتين على التنظيم الليبرالي”

تحليل فوكوياما للعملية العسكرية على أوكرانيا يثير الاهتمام نوعًا ما. لأول وهلة لا يبدو أن لتحليله في الوضع الراهن أية أهمية؛ لأنه لا يفعل شيئًا سوى إعادة النمط المعتاد من الدعاية الغربية “الضد روسية”، التي لا تحتوي على شيء جديد أو مقنع بذاته ليس سوى صحافة معادية للروس. لكن بالنظر بشكل أدق؛ فإن الصورة تتغير إذا ما تجاهل أحدنا أكثر ما يصدمه -الكُره المتصاعد لروسيا، لبوتين وكل قوة أخرى تعارض نهاية التاريخ وتفهم خوارزمية مسيرته- ما ينعكس من التفكير العام لنخبة العولميين.

في مقال منشور على صحيفة التايمز الاقتصادية؛ فوكوياما يضع بيت القصيد في العنوان “حرب بوتين على التنظيم الليبرالي” وهذه الأطروحة بذاتها صحيحة جدًا.

العملية العسكرية لبوتين على أوكرانيا هي لحظة مصيرية لتثبيت روسيا كحضارة وسيادة قطبية في عالم متعدد الأقطاب. هذا يندرج بشكل تام تحت نظرية هنتغتون؛ لكنه يعاكس نظرية فوكوياما تمامًا لنهاية التاريخ (أو “المجتمع المفتوح” لبوبر وسورس – لهذا نرى العجوز سورس في قمة الحنق الآن). نعم هذه بحق هي “الحرب على التنظيم الليبرالي”. 

الأهمية المركزية لأوكرانيا

أهمية أوكرانيا لإعادة إحياء روسيا كقوة عظمى هو أمر أكد عليه أجيال من الجِيُوسياسيين الأنغلو-ساكسون بدايةً من مؤسس هذا العلم ماكيندر إلى بريجنسكي. في البداية وضع الأمر بهذا الشكل: بلا أوكرانيا فروسيا ليست إمبراطورية، مع أوكرانيا روسيا إمبراطورية. إذا استخدمنا لفظ حضارة أو من عالم متعدد الأقطاب بدل إمبراطورية؛ فالمعنى سيكون أكثر شفافية.

الغرب العولمي قد راهن على كون أوكرانيا عدوة لروسيا؛ ولأجل هذا الغرض لقد سمح بشكل فعال بانتشار النازية الأوكرانية والعنصرية ضد الروسية المتطرفة. أي وسيلة هي صالحة لمحاربة الحضارة الأرثوذوكسية2 والعالم متعدد الأقطاب. بوتين بدوره لم يتقبل الموضوع ودخل الحرب لا مع أوكرانيا فقط بل مع العولمة بأسرها، مع النخبة العالمية، مع مشروع الاستعادة الكبرى، مع الليبرالية، ومع نهاية التاريخ.

لنكن أكثر دقة فالغرض الأهم قد تبين من الحرب. الحملة العسكرية ليست موجهةً فقط ضد النازيين الأوكرانيين (بما يشمل تفكيك قوتهم العسكرية وفك تنظيمهم كسبب رئيسي) لكن بشكل أوسع فهي ضد العولمة والليبرالية. الغربيون الليبراليون هم مَن مكَّن للنازيين الأوكرانيين؛ فقد دعموهم وسلحوهم وأطلقوهم على روسيا التي تمثل قطبًا في عالم متعدد الأقطاب جديد. حتى ماكيندر قد سمى روسيا المحور الجغرافي للتاريخ (وكذا كان اسم مقاله الشهير).

لكي ينتهي التاريخ (حسب طرح العولميين، وحسب خطة الاستعادة العظمى) على المحور أن ينكسر، أن يدمر، روسيا كقطب، كسلطة، كحضارة يجب ألَّا تتواجد. الخطة الشيطانية للعولميين كانت ضرب روسيا في أكثر المواضع إيلامًا، يريدون وضع السلاف الشرقيين (وهم ينحدرون من عرق واحد) ضد بعض، بل طمحوا إلى تقسيم الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية التي توحدهم في إطار حضاري مشترك. ولهذا الغرض فقد تم ضم أوكرانيا إلى المصفوفة العولمية.

العولميون سعوا إلى التحكم بوعي المجتمع عن طريق الدعاية الإعلامية، الشبكات الاجتماعية والعمليات الكبرى لتوجيه الوعي والإدراك. عدة ملايين من الأوكرانيين سقطوا ضحايا لهذا المشروع خلال العقود الماضية، وبشكل أوسع خلال ثورة العذراء في 2014 وصعود النازية الأوكرانية المستحدثة. لقد تم إيهام الأوكرانيين ليتصوروا أنهم جزء من العالم الغربي وأن الروس أعداء أشداء لا أخوة أعزاء. وفي وضع كهذا فالنازية الأوكرانية في مكان نافع لليبرالية، التي بدورها دعمتهم بفعالية.

الحرب لأجل التعددية القطبية

هذا بالضبط ما ساق بوتين لخوض هذا الصراع؛ ليس ضد أوكرانيا بل لأجلها. فوكوياما كان محقًا تمامًا في هذه المسألة الذي يحدث في هذه الحالة هو “حرب بوتين ضد التنظيم الليبرالي”. إنها حرب ضد فوكوياما ذاته، ضد سوروس، ضد شواب، ضد العولمة، ضد الهيمنة الرقمية وضد الاستعادة الكبرى، ضد نهاية التاريخ.

الأحداث الحالية المتأزمة في أوكرانيا تمثل المرحلة المِفصلية الحالية للبشرية. من خلالها سيتحدد مصير النظام العالمي. هل سيغدو العالم متعدد الأقطاب حقًا، بمعنى ديمقراطيًا ومتعدد المركزيات؟ حيث تتمكن كل حضارة من تحديد مصيرها (ونأمل أن هذا ما سيحدث في حالة انتصارنا القادم) أو -لا سمح الله- سيغمر كل شيء في هاوية العولمة. لكن هذه المرة لن تكون الليبرالية على عداء مع النازية والعنصرية بل ستكون متصلة اتصالًا دائمًا بهما (كما يحدث الآن في أوكرانيا).

الليبرالية المعاصرة مستعدة لاستخدام وغض الطرف عن النازية إذا اقتضت المصلحة، الليبرالية هي الشر الحقيقي الآن، هي الشر المطلق، الحرب تشن عليها الآن، على هذا الشر.

اثنا عشر أطروحة للمدير النازي فوكوياما بناها على مقدمات مغلوطة

الليبرالي

طبع نص آخر لفوكوياما في البربس الأمريكي وهي صحيفة للمحافظين الأمريكيين الجدد (أوضح مُروِّج لليبرالية النازية) والنص مثير للاهتمام. يناقش فيه فوكوياما اثنا عشر طرحًا محتملًا لخاتمة المعركة في أوكرانيا. أدرجها أدناه. يجب الانتباه أن هذه مغالطات ودعاية عدائية، ويتم عرضها هنا على أنها أخبار كاذبة.

1- روسيا متوجهة لهزيمة في أوكرانيا. التخطيط الروسي كان قاصرًا، اعتمد فيه على أن الأوكرانيين منحازون للصف الروسي وسينهار الجيش عقب الاحتلال. الجنود الروس حملوا أزياء احتفال للفرح عند احتلالهم كييف بدل العتاد الاحتياطي والمؤن. بوتين سخَّر في هذه الحملة غالب جنده ولم يعد هناك من يدعوه للدعم. فلول الروس محاصرة خارج عدة مدن أوكرانية مع قصر في المؤنة وتحت قصف أوكراني مستمر. 

أول جملة هي أهم جملة “روسيا متوجهة لهزيمة في أوكرانيا“. كل ما يتبع مبني على كون هذه الجملة ممثلة للحقيقة المطلقة التي لا يمكن مساءلتها. إن كنا نتعامل مع إحصاء حقيقي لبدأ بشيء مثل: إذا فاز الروس .. إذا خسر الروس لكان كذا… لكن ليس هنالك ما يشابه هذا هنا. “الروس سيخسرون لأن الروس لا يستطيعون إلا الخسارة؛ مما يعني أنهم خسروا مقدمًا ولا يمكن طرح احتمال آخر وإلا لكان دعاية روسية”. ما هذا؟ هذا تجسيد حي لطروحات الليبرالية النازية. دعاية أيدلوجية عولمية تضع القارئ من البداية في العالم الافتراضي حيث التاريخ انتهى أصلًا. ثم يصبح كل شيء قابلًا للتوقع في سياق هذه الهلوسة المصطنعة. نحن نتعامل مع عينة من الحرب النفسية.

2- انهيار موقفهم من الممكن أن يكون مفاجئًا و كارثيًا بدل أن يكون بطيئًا من خلال حرب استنزاف. الجيش في الساحة سيصل مرحلة يعجز فيها عن تلقي المؤن أو الانسحاب، وقتها ستفتر عزائمهم. هذا صحيح الآن بالنسبة للشمال، بالرغم من أدائهم الجيد في الجنوب، لكن إذا انهار الشمال فسيصبح من الصعب المحافظة على الجنوب.

لا يوجد دليل على هذا إلا تسليًا بالأماني. “الروس يجب أن يكونوا خاسرين لأنهم خاسرون”. وهذا يخرج من فم الفاشل الذي أصبح أمثولة للفشل “فوكوياما” الذي كل توقعاته فندت بالمثال المشهود، وأثبتت كفشل رهيب. 

كل طرحه مبني على افتراض أن روسيا استعدت لعملية مدتها يومان أو ثلاثة، وستكون نهايتها استقبالهم بالورود من الشعب المحرر. كأن الروس حمقى لدرجة أنهم لم يلحظوا ثلاثين سنة من دعاية الكراهية، ومن ذلك التوجيه الغربي للتشكيلات النازية الجديدة وجيش مسلح أوربيًا (مسلح من الغرب نفسه) ومدرب (في زمن السوفيت يوم كان التدريب جديًا)، الذي كان بدوره سيبدأ حربًا لأجلهم في دونباس ولاحقًا في القرم. “إن لم تنتهِ العملية في أسبوعين فهي فشل” مجرد هلوسة من فوكوياما.

الغرب ضحى بالأوكران

ثم يشرع فوكوياما بالحديث عن بعض الأمور المهمة: 

3- لا يوجد حل دبلوماسي يمنع الحرب سابقًا للأحداث الأخيرة، لا يوجد هناك قدر من التنازل يرضي الطرفين الروسي والأوكراني وخصوصًا باحتساب الضرر الذي تكبده كلاهما. 

هذا معناه أن الغرب مستمر في تصديق دعاياته الافتراضية ولن يرضخ للتنازل مع روسيا. إن انتظر الغرب حتى تهزم روسيا ليبدأوا مفاوضاتهم لن يبدأوا أبدًا. 

4- مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة أثبت أنه بلا فائدة من جديد. الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن ينفع هو تصويت الجمعية العامة، الذي سيحدد من هي الجهات المراوغة والسيئة في العالم.

في هذه الأطروحة يشير فوكوياما إلى الحاجة لتفكيك الأمم المتحدة وصنع نخبة من الديمقراطيات مكانَها، بنية من المؤسسات خاضعة تمامًا لسلطة واشنطن، مطاوعة تمامًا لوهم نهاية التاريخ. هذا المشروع طرح من ليبرالي نازي آخر معادٍ للروس اسمه “مكين”، وبدأ تنفيذه من جو بايدن. كل شيء يسير حسب خطة “الاستعادة الكبرى”.

5- قرار إدارة بايدن ليس تحديد منطقة حظر طيران أو نقل طائرات ميغ بولندية؛ كلاهما خطة جيدة لكن إدارة بايدن لم ترفع رأسها أصلًا. الأفضل ترك أوكرانيا تهزم الروس وحدها حتى تسلب موسكو من عذر كون الناتو هاجمهم، وأيضًا لتجنب التصعيدات الممكنة. طائرات ميغ البولندية تحديدًا لن تضيف الكثير لقوة أوكرانيا. الأهم من ذلك هو استمرار الإمداد بصواريخ جافلين وستينغر وتي بي 2 والإمدادات الطبية ومعدات الاتصالات ومشاركة المعلومات. أتوقع أن القوات الأوكرانية أصلًا يتم إسعافها بالمعلومات من الناتو من خارج أوكرانيا. 

بما يخص أول النقطة فيمكننا الاتفاق مع فوكوياما؛ بايدن غير مستعد لنزال نووي. الذي سيتبع إعلان حظر الطيران والخطوات المباشرة لتدخل الناتو في الصراع.

جملة “الأوكران يغلبون الروس وحدهم” تبدو ساخرة وقاسية، ولكن المؤلف لا يفهم ما يقول: الغرب حرض الأوكران على الروس ثم تركهم يواجهوننا وحيدين بامتناعهم عن أي دعم فعال. الأوكران ينتصرون في العالم الافتراضي، في عالم انتهى فيه التاريخ. ويفترض بهم، في خيال فوكوياما، أن يكونوا سعيدين بذلك. إنها مسألة وقت قبل هزيمة الروس. الواقع غير ذلك، لكن من يهتم.

6- أوكرانيا تدفع ثمنا باهظًا طبعًا، لكن الضرر الأعظم واقع عن طريق الصواريخ والمدفعية واللذين لا يسعفهما طائرات ميغ ولا الحظر الجوي. الشيء الوحيد الذي سيوقف المذبحة هو هزيمة فلول الروس على البر.

عندما يقول فوكوياما “ثمنًا باهظًا” فواضح من تعابير وجهه غير المبالية أنه لا يفقه ما يقول. 

بوتين سينجو، بداية جديدة للشعبوية

الرئيس الروسي فلادمير بوتين

ثم يشرع فوكوياما بالتحدث عن مصير بوتين. في نفس السطر الحالم بنهاية التاريخ. يؤكد بلا مبالاة:

7- بوتين لن ينجو من هزيمة جيشه. إنه مدعوم لأنه مشتهر على أنه الرجل القوي، ما الذي سيقدمه عندما يظهر للجميع قلة خبرته وتنزع منه السلطة؟ 

أطروحة أخرى مبنية على المقدمة الأولى. هزيمة الروس محتمة، مما يعني نهاية بوتين. وإذا فاز الروس فبوتين ليس إلا البداية. هذا مهم لا لفوكوياما المهلوس لكن لنا. بوتين كما لو أنه ميت. الشعبوية -أعداء العولمية المحليين- سيفنون أيضًا، بل قد فنوا. 

8- هذا الاحتلال أضر بالشعبويين حول العالم الذين كانوا قبل الاحتلال يعبرون عن تعاطفهم مع بوتين. هذا يشمل ماتيو سالفيني، جاير بولسونارو، إريك زيمور، مارين لوبان، فيكتور أوربان، وطبعًا دونالد ترامب. سياسات الحرب فضحت ميولاتهم السلطوية. 

تذكرة عودة للواقع: لا يلزم أن يكون كل شعبوي متأثرًا بروسيا. ماتيو سالفيني تحت تأثير الليبراليين النازيين والأطلسيين في جواره قد غير سياسته الصديقة لروسيا. التعاطفات تجاه روسيا من الآخرين لا ينبغي تهويلها أيضًا.

لكن من جديد هناك نقطة مثيرة للاهتمام. حتى لو سُلم لفوكوياما بشأن كون الشعبويين عالقين في مدار بوتين؛ فإنهم يخسرون فقط حال خسارة بوتين. وفي حال نصره؟ على كل حال هذه “حرب بوتين على التنظيم الليبرالي” وإذا فاز فكل الشعبويين سيفوزون إلى جانب موسكو .. ومن ثم تكون نهاية النخبة العالمية والاستعادة الكبرى، غير قابلة للإيقاف.

الدرس المستفاد للصين، ونهاية النظام العالمي أحادي القطب

أخيرًا يتطرق فوكوياما لمصير الصين، المتنافس الثاني في القطب لعالم متعدد الأقطاب:

9- الحرب حتى هذه اللحظة كانت درسًا جيدًا للصين. مثل روسيا فالصين قد بنت في العقد الأخير جيشًا قويًا، متقدمًا تقنيًا، لكنهم يفتقرون للخبرة العسكرية. الأداء التعيس للطيران الروسي سيتكرر في قوات طيران جيش التحرير الشعبي؛ التي -بالمثل- لا تمتلك خبرة في إدارة العمليات الجوية المعقدة. نأمل أن الصينيين لن يخادعوا أنفسهم بشأن إمكانياتهم كما فعل الروس إذا ما قرروا احتلال تايوان.

من جديد، هذا صحيح على افتراض أن “الروس خسروا أصلًا” وإذا فازوا؟ فالدرس المستفاد للصين سيكون العكس تمامًا. وهذا يعني رجوع تايوان إلى مرفئها الأم أسرع مما يُتصور.

10- نأمل أن تستيقظ تايوان لتتحضر للقتال كما فعل الأوكران وتستعيد نظام التجنيد الإجباري، دعونا لا نهزم قبل أن نبدأ. 

الأفضل أن نكون واقعيين، أن نرى الواقع كما هو، أن نأخذ كل العوامل بالحسبان. لكن ربما واقع أن الغرب فيه منظرون مثل فوكوياما، ثَمِلُون بوهمهم مما فيه منفعة لنا. إذا كانوا يقعون في الوهم الذي يحاولون فرضه على الآخرين ويخدعون أنفسهم بنفس الكفاءة، إنهم حقًا بائسون بتمسكهم بالافتراضية وتنبؤاتهم المتحققة ذاتيًا داخل إمبراطورية الأخبار الكاذبة.

11- الدرونات التركية ستصبح الأولى مبيعًا.

الآن أشلاء هذه المنتجات الأولى مبيعًا يتم احتطابها من قبل النهابين والمشردين في مزابل أوكرانيا.   

12- الهزيمة الروسية ستمكن من ولادة جديدة للحرية، وتخلصنا من الذعر بشأن حالة الاضمحلال الديمقراطي في العالم.

روح الـ1989 ستخلد، بفضل ثلة أوكرانيين شجعان.

هنا استنتاج ممتاز. فوكوياما يقطع بهزيمة روسيا، كما يقطع بنهاية التاريخ. ومن ثم إنقاذ العولمة. وإن لم يحصل؟ إذن لن تكون هناك عولمة. ومن ثم أهلًا بكم للعالم الواقعي؛ عالم الأمم والحضارات، والثقافات والديانات، عالم الواقع والتحرر من معسكر الاعتقال الشمولي الليبرالي.


  1. هنا وبغض النظر عن استخدام كاتب المقال لهذا المصطلح؛ فإنَّ “نهاية التاريخ” لا تعني أنَّ البشرية ستنتهي، بل تعني الوصول إلى حال الكمال في التاريخ الإنسانيّ، وبهذا يتم الاستقرار على هذا الكمال. وهي ترتبط بظاهرات فكريَّة وفلسفيَّة عامة تخصُّ الغرب وفكره وإطاره. (المُحرِّر) ↩︎
  2. المقصود بالأرثوذكسيَّة أنها حضارة أصوليَّة دغومائيَّة متجذِّرة. ويشبه هذا المصطلح مصطلح “الأصولية الإسلامية” في استخدام الغرب. (المُحرِّر) ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *